الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وانظر هل ثم مانعَ من جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل: اشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالاستعارة التمثيلية تأمل.وقوله سبحانه: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضًا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضًا، والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم.ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة الا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم».وفي رواية أخرى «ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم».وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة، واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، وبأن أهل بدر غنموا وهم هم ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه، وبأنه لم يجئ نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم هم هم لا يلزم منه أن لا يكون وراء مرتبتهم مرتبة أخرى أفضل منها، والقول بأن في السند أبا هانئ وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحس فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحيوة وابن وهب وخلائق من الأئمة، ويكفى في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه، ومثل هذا ما حكاه القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر، وكذا ما قيل: من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني، وظاهر ما أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة «من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد» أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} [النساء: 100] واستدل له أيضًا بعض العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه الله تعالى، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقًا لكون القتال بذلًا للنفس، وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانًا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قال كعب بن زهير في حقهم:
وفيه على ما قيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل بعضهم، ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه القراءة بأن الواو لا تقتضيه.وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لا يخفى {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه، وقوله تعالى: {حَقًّا} نعت له و{عَلَيْهِ} في موضع الحال من {حَقًّا} لتقدمه عليه، وقوله سبحانه: {فِى حَكِيمٌ إِنَّ الله} متعلق بمحذوف وقع نعتًا لوعدًا أيضًا أي وعدًا مثبتًا في التوارة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد الحاق ما لا يعرف بما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أم محمد صلى الله عليه وسلم اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من جاهد بنفسه وماله له ذلك، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن، وجوز تعلق الجار باشترى ووعدًا وحقًا {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد، والمقصود من مثل هذا التركيب عرفًا نفي المساواة أي لا أحد مثله تعالى في الوفاء بعهده، وهذا كما يقال: ليس في المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفًا أنه أفقه أهلها، ولا يخفى ما في جعل الوعد عهدًا وميثاقًا من الاعتناء بشأنه {فاستبشروا} التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار إظهارًا لسرورهم، وليست السين فيه للطلب، والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور بما فزتم به من الجنة، وإنما قال سبحانه: {بِبَيْعِكُمُ} مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم فيها هو من قبلهم، وقوله تعالى: {الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} لزيادة تقرير بيعهم وللاشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول: أنفس هو خلفها وأموال هو رزقها {وَذَلِكَ} أي البيع الذي أمرتم به {هُوَ الفوز العظيم} الذي لا فوز أعظم منه، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال؛ والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر السابق، ويجوز أن يكون تذييلًا للآية الكريمة والأشارة إلى الجنة التي جعلت ثمنًا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم، وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن، ونقل عن الأصمعي أنه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه: والمشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها، وهو ظاهر في أن المبيع هو الأبدان، وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي حيث قال: إن الله تعالى اشترى من المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة، ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وبذلك أبطل بعض أجلة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدًا، وقد قالوا: بامتناع اتحادهما؛ والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان، والمبيع أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعى أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية. اهـ.
|